الٱن

10/12/2018

مسرحيون وأكاديميون يدعون إلى التحقيق الفعلي للامركزية وتطبيق ما جاء في الدستور

منذ تأسيسه، نشأ المسرح في المدن ولم يفارق السلطة المركزية، حيث استمالته وطوعته لنفوذها، وقد خدم المسرح على مدى التاريخ الميتولوجيا والكنيسة والبلاط ولم يفارق المدن الكبرى والعواصم التي تحتضن كل المشاريع السياسية والاقتصادية والثقافية. من هذا المنطلق مثل وضع المسرح التونسي واللامركزية محور أولى ندوات الدورة 20 لأيام قرطاج المسرحية (8-16 ديسمبر2018)  التي افتتحت صباح أمس الأحد بالعاصمة وتتواصل على مدى يومين.

وتتضمن فعاليات اليوم الأول ثلاث جلسات خصصت الأولى لبحث مسألة السياسة المركزية للمسرح وعلاقتها بالجهات، فيما يتحدث المشاركون في الثانية عن مراكز الفنون الدرامية والركحية وعن هاجس اللامركزية بين الخصوصية الثقافية المحلية والتبعية للإدارة المركزية، قبل أن يتطرقوا في الجلسة الثالثة إلى دور المبادرات المسرحية الخاصة في دعم اللامركزية الثقافية.

وتولى المتدخلون في الجلسة الأولى التي ترأسها الدكتور محمد المديوني، استقراء التجربة الأولى للامركزية المسرح (1967-1968) مسلطين الضوء على انعكاسات اللامركزية وكيفية تعامل السلطة السياسية معها، وتساءلوا عن مدى وجود رغبة حقيقية من أصحاب السلطة في منح الجهات الحرية وتكريس اللامركزية لا فقط إثر الاستقلال بل كذلك بعد الثورة وما رافقها من تنصيص في الدستور الجديد على تكريس اللامركزية (الفصل 14) واعتبار مبدأ التمييز الإيجابي لفائدة الجهات.

وأشار محمد المديوني في كلمة تقديمية إلى اقتران أهمية المركز بما يربطه بالقرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مشددا على ضرورة أن يكون المركز منصتا إلى مراكز أخرى (وهي الجهات) وفق تعبيره.

وبيّن أن إقبال الجمهور التونسي اليوم بكثافة على المسرح ليس وليد الصدفة بل وليد مراحل مختلفة، مؤكدا أن اهتمام النخبة بالمشغل الفني من أدب ومسرح وغيرها من الفنون، سبق تأسيس كتابة الدولة للشؤون الثقافية سنة 1961 أي سبق مرحلة الاستقلال.

وقدم الأكاديمي والمخرج المسرحي عز الدين العباسي قراءة إحصائية وتحليلية لواقع المؤسسات المسرحية في تونس داعيا إلى إنقاذ ما تبقى من المسرح الجهوي على حد تعبيره. 

وقدم لمحة تاريخية تحدث خلالها عن بدء الاهتمام بالمسرح في الجهات وتحديدا مع الخطاب الشهير للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في نوفمبر 1967 الذي دعا فيه إلى تأسيس الفرق المسرحية "وهو ما لم يتم إلى اليوم بحسب العباسي الذي أوضح أنه "لا وجود قانوني لأي فرقة جهوية للمسرح، وأنه لا وجود لقانون يخص المسرح الجهوي منذ سنة 1954".

بل حتى فرقة مدينة تونس لا وجود قانوني لها حيث أن أعضاءها هم موظفون في بلدية تونس. كما أن المسرح الوطني لم يتمكن من الحصول على مقر خاص إلا سنة 1988 مع مديره آنذاك محمد ادريس الذي حرص على أن يكون للمسرح مقر داخل المدينة وكذلك قانون أساسي. 

واعتبر من جهة أخرى أن المسرح الوطني أفرغ المسرح الجهوي من محتواه من خلال استقطاب الكفاءات المسرحية بالجهات للعمل في العاصمة. ولم ينف وجود بعض التجارب المضيئة المتمثلة في تأسيس عدد من الشبان لفضاءات خاصة في الجهات على غرار مدنين وبني خداش والقصرين وغيرها، الا أنه اعتبر هذه المراكز الثقافية الجهوية شكلا من أشكال المقاومة الثقافية خاصة في ظل عدم وعي السلطة السياسية بأهميتها.

وانتقد عدم تحيين وزارة الشؤون الثقافية للمعلومات المتعلقة بمراكز الفنون الدرامية والركحية بالجهات على موقعها، منتقدا توجهها الرامي اما الى الابقاء على المراكز الجهوية تابعة للمسرح الوطني أو خلق ديوان مركزي يعنى بهذه المراكز الجهوية وهو ما يكشف عن "بقاء السياسي متخلفا عن الركب، مقارنة بالمبدعين من أهل المسرح". 

ودعا الى منح المديرين المسؤولين عن المراكز الجهوية الاستقلالية المالية والادارية ومنحهم الوسائل اللازمة لتحريرهم من قيود المركز وتمكينهم من كل وسائل العمل بحرية. 

أما الباحث محمد عبازة، فقد اعتبر أن قرار إحداث فرق جهوية للمسرح ومراكز فنون درامية وركحية بالجهات كان "متسرعا" باعتباره لم يكن مرفوقا بسن التشريعات اللازمة في هذا الشأن، واستدل على ذلك أيضا بنقص التجهيزات وعدم توفر فضاءات معدة لتقديم عروض مسرحية بمواصفات عالمية.

واعتبر أن غياب الحرية والديمقراطية في السنوات الفارطة والمراقبة الشديدة التي كانت تسلطها الدولة على الفرق المسرحية في الجهات من خلال ممثليها (سواء الولاية أو وزارة الداخلية) حال دون قيام هذه الفرق بدور ريادي يؤسس لحركة مسرحية.

وفي مقارنة مع توسع المسرح في فرنسا من خلال تجارب باريس ومرسيليا وتولوز وافينيون، اعتبر أن نجاح التجربة الفرنسية مردّه تفويض بعض سلطات المركز للمراكز الاقليمية، متسائلا عن الجدوى من حل الفرق المسرحية الجهوية في تونس وتعويضها بمراكز الفنون الدرامية والركحية مع تواصل الفراغ التشريعي ذاته.

وواصل المسرحي والأكاديمي رضا بوقديدة في مداخلته الحديث عن اللامركزية في تونس وعلاقتها بالنموذج الفرنسي، معرجا على العلاقة بين النظام السياسي والمسرح. وتساءل عن إمكانية الحديث عن لامركزية مسرحية في ظل غياب لامركزية إدارية، مشيرا الى جملة من العراقيل التي تحول دون تحقيق اللامركزية.  وتساءل في ختام مداخلته عما إذا كان قرار تجسيد اللامركزية بيد المسؤولين التونسيين أم بيد  غيرهم في ظل الاختيارات الليبرالية وما نشهده اليوم من تدخلات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في التوجهات والاختيارات التونسية.

ومن جانبه طرح المسرحي الكبير كمال العلاوي مسألة المركزية واللامركزية انطلاقا من تجربته الخاصة لدى إشرافه على الفرق المسرحية بكل من الكاف وصفاقس والمهدية معتبرا أن اللامركزية تعني أساسا "المسرح الشعبي". وتحدث في هذا الصدد عن ظروف تأسيس المسرحي الراحل منصف السويسي لفرقة مسرح الكاف وتأثره بدعاة اللامركزية. 

واعتبر أن فترة انتشار المسرح المدرسي، على إثر خطاب بورقيبة الشهير، هي الوحيدة التي تجسد لامركزية المسرح. وطرح مجموعة من الأسئلة تتعلق بالعلاقة بين الجمهور وأنواع المسارح، قائلا إن التعايش بين أنواع المسرح (كلاسيكي - فودفيل...) هي التي جعلت المسرح الفرنسي يستمر وساهمت في نجاحه. وتساءل عن دور المسرح اللامركزي : هل هو تعبوي تحريضي أم مدرسي تربوي تعليمي. وتساءل عن إمكانية الحديث عن مسرح جهوي في ظل غياب الجمهور عن العروض داخل الجهات. 

وشدد المتدخلون في النقاش خلال هذه الجلسة على ضرورة منح استقلالية مالية وإدارية للجهات وعدم تقييدها بالمركز، وثمّن عدد من المتدخلين من الضيوف العرب الحرص على تطوير المسرح في تونس،  فيما أجمع جلهم على أن الدولة لا يمكن لها أن تستمرّ إلا بتركها هامشا من الحرية الثقافية والإبداعية.

وتتواصل فعاليات ندوة "المسرح التونسي واللامركزية" يوم غد بتقديم شهادات للفاعلين الاجتماعيين في حقل اللامركزية المسرحية في تونس ومائدة مستديرة حول واقع مراكز الفنون الدرامية في تونس قبل أن تختتم بعد الظهر بتقديم حصيلة التوصيات التي سيقع تقديمها لأصحاب القرار.

كلمات مفاتيح

الاكثر قراءة