الٱن

28/02/2018

صفاقس: الصناعات التقليدية الاصيلة في مواجهة خطر الاندثار وضرورة التكيف مع التطور الصناعي

في مدينة صفاقس، القطب الاقتصادي والتنموي الثاني في البلاد بعد العاصمة، تنشط حركية إنتاجية وتجارية متميزة لتغذي كل جهات البلاد والكثير من البلدان بالخارج وتتطور الصناعات بشكل مطرد مواكبة النسق التكنولوجي والنظم الاقتصادية المتقدمة لكن أعين المدينة ترى في ذات الوقت وبشعور مليء بالحسرة والحنين، خطر الاندثار يهدد حرفها التقليدية ومنتجاتها. ورغم أن عاصمة الجنوب ليست وحدها من يواجه هذه المشكلة إلا أن حدة المشكلة تبرز أكثر مما في مناطق أخرى باعتبارها المدينة الأكثر اندفاعا نحو العصرنة التكنولوجية والمنافسة الاقتصادية العالمية، فهنا تدفع الصناعة الحرفية التقليدية الصفاقسية الاصيلة بوضوح ضريبة التقدم الاقتصادي والتقني.

أسواق ومتاجر تعيش على الماضي

   تمتد المدينة العتيقة في صفاقس على مساحة أربعة وعشرين هكتارا تحيط بها الاسوار من جميع الجوانب في مشهد فريد من نوعه في العالم العربي بمكونات رئيسية هي الانهج الضيقة والساحات والأسواق والمحلات التجارية ودكاكين الحرفيين والجوامع وديار العائلات الشهيرة. وعندما ترغب في زيارة دكاكين الإنتاج الحرفي بحثا عن منتج تقليدي أصيل فريد بنوعه وحامل لقيمة تراثية تعتز بها، فإنك لن تجدها بسهولة مثلما كان في الماضي. فأغلبها أصبح مغلقا وغير متوفر. يصيبك الشعور بالاسف وبعض الخوف من فقدان عمقك في الوجود بالانقطاع عن الماضي وتحتار في الإجابة عن سؤال يتعلق بقدرة الانسان التونسي على الحفاظ على تاريخه. ألم يعرف تاريخ الانسان وحضاراته المتعاقبة بما خلفه من منتجات يدوية بسيطة كانت أثرا بعد العين يدل عن تطوره ومهاراته الفائتة التي مهدت لما هو عليه اليوم؟

أغلقت الأغلبية الساحقة من دكاكين الحرفيين في أسواق المدينة العتيقة بشكل نهائي وأصبح الحرفيون عملة نادرة بينما تحول معظم ورثتهم الى مزاولة الأنشطة العصرية سواء في المجالات الاقتصادية أو غيرها. كبار "الصنايعية" كما يسمون إما غادروا الحياة أو يخلدون الى راحة الشيخوخة بعيدا عن صخب الأسواق ومشاهد البضاعة المتراكمة في انتظار الحرفاء الذين لا يقبلون بالشكل المطلوب على المنتوج التقليدي. المحلات الحرفية مغلقة أيضا لان منتوجها لم يعد يدر العائدات الكافلة للاستمرار ولم يعد قادرا على فرض ذاته أمام إنتاج المصانع العصرية بما فيها المحاكية للصناعة التقليدية. أما معظم الشباب فلا يقبلون على هذه الحرف لانها فقدت مكاتنها وعطاءها المادي.

يقول ماهر الكراي تاجر معروف في "سوق الربع"متحدثا عن الحرفيين المعروفين سابقا "لقد انتهوا أو اعتزلوا المهنة وأغلقت أغلب الدكاكين. معظم ما ترونه في المتاجر من بضاعة قادمة من المصانع أو من جهات أخرى غير صفاقس مثل قصر هلال والمهدية وبني خيار بالوطن القبلي وغيرها من المناطق. لا يمكن أن تجد إنتاج الصناعة الحرفية إلا في دكاكين تعد على أصابع اليد الواحدة مثل صناعة الجبة والفرملة والبدعية والبرنس لانها مربحة وتحمل قيمة اجتماعية عالية وتهم الفئات الميسورة. أما حياكة وخياطة الملابس التقليدية الأخرى فهي لم تعد موجودة لا في المدينة العتيقة ولا خارجها".

أبرز أسواق المدينة العتيقة بصفاقس، سوق الربع وسوق الطعمة وسوق الصباغين وسوق البلاغجية التي كانت تشكل منظومة إنتاج وترويج متكاملة في مجال النسيج والاحذية وأقامت علاقات وطيدة مع المدن الداخلية والخارجية، ما تزال تعبر عن طريق الرواية والكتابة عن مجتمع ثري بمكوناته وأعرافه وتقاليده لكنها لم تعد توفر الا ما ندر من الشواهد الملموسة المتمثلة في المنتوج التقليدي الصفاقسي الأصيل كالجبة والفرملة والبلغة والبرنس بل أن سوق الطعمة الخاص سابقا بالحياكة والنسج على " النول" صارت جل محلاته في السنوات الأخيرة متداعية للسقوط كما هو الحال فيما يعرف ب"قساريةالجرابة" المتفرعة عن نهج البلاغجية.

وكما أن الشيخ حافظ الخراط الرجل الأخير في خياطة الجبة بسوق الربع فإن "المعلم" عبد اللطيف التريكي هو آخر أصحاب صناعته في مجال البلغة والاحذية التقليدية في سوق البلاغجية و"المعلم" حمادي قطاطة في صناعة "الجبوس" أو المواد المنتجة من الخشب وخاصة خشب الزيتون بنهج الباي بذات السوق وكل منهم يروي اضطرار الصناعات التقليدية الحرفية الاصيلة إما الى الانحسار أو الى القبول بمنطق التصنيع والمناولة الذي يجعل منها مواد مصنعة تحمل سماة أساسية وجزئية من الصناعات التقليدية الاصيلة.

المسالك السياحية في مدينة التراث العالمي تعيد الامل

صار عبداللطيف التريكي (60 سنة) المعلم الحرفي الوحيد لصناعة البلغة والحذاء القديم للنساء والرجال في صفاقس بكاملها - كما يعرف نفسه - وهو لا يزال متمسكا بأدواته الحرفية القديمة التي ورثها عن والده ويعرفها منذ سن التاسعة ومنها آلة الخياطة المقتناة سنة 1956 بخمسة وتسعين دينارا من إيطاليا ولكنها ليست من جيل آلات الصناعة البدائية في سوق البلاغجية إذ تعد متطورة نسبيا وتمكن من المزاوجة بين الحرفي والصناعي العصري وبين ما هو محلي وما هو وارد من الخارج من الموضة. كما لا يزال متمسكا بمحل إنتاجه الى جانب متحف الصناعات التقليدية "دار الجلولي" بالمدينة العتيقة، رغم ضيق مساحته وحالته البالية لان وضعيته المهنية تمكنه من بعض المرابيح المقنعة من حرفاء ليسوا بالكثيرين مثلما هو الامر في سابق العهود ولكنهم منتقون من بين الشخصيات المحلية والاجنبية.

الاستسلام لمنطق التطور التكنولوجي ومجاراة الموضة في الصناعة الحرفية تجلى أكثر في منتجات الأحذية للفتيات بورشة فتحي عبد المقصود ومساعديه الأربعة بسوق البلاغجية إذ أصبح يتابع تطور "الموديلات" شكلا ولونا حتى أن "البلغات" لم تعد تشبه الا نزرا من "البلغات" التقليدية الاصيلة للفتيات والفتيان التي يعرفها الإباء والاجداء لان الحرفة والمنتوج التقليديين "مرا بصعوبات كبيرة دفعت الكثيرين الى التخلي عن أصولها وعن النماذج والقوالب ومعظم الالات الحرفية للصناعة التقليدية التاريخية" وصارت "البلغة " حذاء يشبهها وكأنه يحمل بصمة وراثية منها فقط حسب قوله.

الصراع من أجل البقاء يعيشه أيضا المعلم حمادي قطاطة والصانع محمد عفاس المتخصصان في حرفة "الجبوس" أو صناعة التحف والاواني والآلات المنزلية والفلاحية من خشب الزيتون و"البلنز" المستورد من الخارج بمصنع ومتجر بنهج الباي فتراهما يعكفان يوميا ساعات طويلية على آلاتهم الحرفية البسيطة معززة ببعض الالات الكهربائية الحديثة لصناعة منتجات تباع بالقطعة أو بالجملة وخاصة للفلاحين وسكان المناطق الريفية التي لا تزال تمثل سوقا واسعة لانتاجهما.

خطر اندثار الصناعة التقليدية الحرفية يشغل اهتمام الحرفيين والمسؤولين المحليين والباحثين في مجال التراث بصفاقس ومنهم الدكتورة سهام القلال الباحثة في المعهد الوطني والتفقدية الجهوية للتراث التي تعد مقترحات وتصورات لاخراجها من أزمتها وتجعلها تستعيد مكانة تليق بها في مجتمع المدينة المتعلق رغم تقدمه بإنتاجه الثقافي والفني التاريخي ومنها إقامة مسالك سياحية لكل حرفة من الحرف التقليدية في المدينة العتيقة التي تستعد لادراجها ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) بعد إدراجها سنة 2012 ضمن قائمة تمهيدية لهذا التراث.

المدينة العتيقة بصفاقس

تأسست المدينة العتيقة بصفاقس في عهد الدولة الأغلبية في القرن التاسع ميلادي (الثالث هجري) بجمع كل المنطقة السكنية والتجارية داخل أسوار تحيط بها من الجهات الأربعة لحمايتها من خطر الغزو الخارجي ولتربط عاصمة الاغالبة القيروان بالبحر. وتمتد المدينة العتيقة على مساحة 24 هكتارا. وتشتمل المدينة على عديد الأسواق التجارية والصناعية و11 جامعا ومسجدا والعديد من الديار المملوكة للعائلات الاصيلة أهمها دار الجلولي مقر المتحف الجهوي للتراث ودار بوزيد ودار عفاس ودار خماخم ودار التركي ودار الفوراتي ودار خليف أوكمون ودار الشرفي. كما تشمل العديد من الأسواق أهمها سوق البلاغجية وسوق الربع لتجارة منتجات الحياكة والنسج وسوق الصباغين وسوق الفرياني للاقمشة وسوق المصوغ. وتشكو المدينة من تداعي العديد من بناياتها وهي تحتاج الي ترميم في عديد المواقع. صنفت المدينة سنة 2012 على القائمة التمهيدية للتراث العالمي لمنظمة اليونسكو وينتظر تصنيفها على القائمة الرسمية مستقبلا.

الاكثر قراءة